ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي، ونحن نستعيد الذكرى الأليمة لوفاة الإمام الحسن المجتبى(ع)، التي مرَّت علينا في السابع من شهر صفر، بأن نتّبع الأسلوب الذي تعامل به مع ذلك الرّجل الشامي، ممن رباهم معاوية على العداء لعليّ(ع) ولأهل البيت(ع).
يقول هذا الرّجل: “وصلت إلى المدينة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فرأيت رجلاً راكباً على بغلة، لم أرَ أحسن وجهاً ولا سمتاً ولا ثوباً منه، فمال إليه قلبي، فسألت عنه، فقيل لي: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب(ع). فامتلأ قلبي له بغضاً، وحسدت عليّاً أن يكون له ابن مثله، فصرت إليه وقلت له: أأنت ابن عليّ بن أبي طالب؟ قال لي: نعم. فرحت أشتم أباه وأشتمه، فلما انقضيت من كلامي، قال لي: “أحسبك غريباً؟”، قلت: أجل، قال: “فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، أو إلى مال آتيناك، أو إلى حاجة عاونّاك”، ودعاني إلى بيته وأكرمني بضيافته، فخرجت من عنده، وما على الأرض أحبّ إليّ منه، وما فكّرت فيما صنع وصنعت، إلا شكرته وخزيت نفسي”.
فلنتعلَّم من الإمام(ع) أسلوبه، ولنقتدِ به، رغم صعوبة ذلك علينا، فهو يحتاج منّا إلى صبر، فالواحد منا يحب أن ينفّس عن غيظه، وأن يردّ الإساءة بمثلها أو أكثر! ولكنّنا بالأسلوب الذي اتبعه الإمام الحسن(ع)، نعالج الكثير من التوترات التي تعصف بساحاتنا بفعل الخلافات، وما أكثرها! الخلافات الدينية والمذهبية، والصراع السياسي والحزبي والعائلي، وصراع المصالح، والتّنافس على المواقع، والسجال بين الأفكار والعقائد، واختلاف الآراء…
إننا بهذا الأسلوب نحوِّل الأعداء إلى أصدقاء، والمبغضين إلى محبّين، ونثبّت سلامنا الدّاخلي، بدلاً من أسلوب ردّ الفعل الذي يزيد العداء عداءً، ويثبّت الأحقاد، ويزيد من التوترات.
وبذلك، نصبح أكثر تماسكاً وقوّةً وقدرةً على مواجهة التحديات…
والبداية من الوضع المعيشي والاقتصادي الصعب الذي لا يزال يعصف بهذا البلد ويتهدد اللبنانيين في لقمة عيشهم وقدرتهم على تأمين الدواء والاستشفاء والنقل وتأمين الكهرباء والماء، وأقساط المدارس لأولادهم ومستلزمات الدراسة، ووصل إلى حد فقدان الأمن حتى بات الإنسان خائفاً من أن يتعرض للسرقة وحتى للقتل في وضح النهار، والتي رأينا بعض مشاهدها في الأيام الأخيرة، بفعل الارتفاع المتزايد في سعر صرف الدولار ورفع الدعم من قبل المصرف المركزي عن العديد من السلع الأساسية والضرورية وآخرها إقرار رفع الدعم الكامل عن البنزين، وجشع التجار الكبار وعدم سد منافذ التهريب.
ما أدى إلى تعطيل مرافق الدولة ومؤسساتها والذي تشهد له الإضرابات التي طاولت أغلب مرافق الدولة ومؤسساتها وبلغت حتى أعضاء السلك الدبلوماسي في الخارج ووصلت أخيراً إلى واحد من أهم المرافق التي يعتمد عليها اللبنانيون في شؤون حياتهم كافة وهو قطاع الاتصالات أو جعل اللبنانيين باحثين عمن يساعدهم لاستمرار حياتهم وتأمين حاجاتهم يتوسلون في ذلك من يقدم لهم العون من الداخل أو من هم في الخارج أو باحثين عن مكان يلجأون إليه في بلاد الله الواسعة.
ومع الأسف، يجري ذلك فيما لا يزال من يديرون الواقع السياسي وشؤون الناس غارقين في سجالاتهم ومهاتراتهم وتبادل الاتهامات في ما بينهم، كل يضع اللوم على الآخر في المآل الذي وصل إليه البلد أو في عدم قيامه بمسؤوليته، وكلٌّ يريد أن ينفض يديه من الانهيار الذي وصلنا إليه وكأنهم لم يكونوا في مواقع المسؤولية ومن استفادوا من وجودهم ومن أثروا منها أو على الأقل شاهدين عليه، بدلاً من أن تتضافر جهودهم وتتوحد إمكاناتهم من أجل إصلاح ما أفسدوا أو تعويض ما قصروا.
ونحن هنا نقول لكل هؤلاء أن كفى استهتاراً بمصالح الناس؛ إن عليكم أن تبادروا لأداء دوركم والقيام بمسؤولياتكم تجاه من أودعوكم مواقعكم، أن تتقوا غضب الناس الذين لم يعودوا قادرين على تحمل المزيد من المعاناة وقد يصل بهم اليأس إلى ما لا نريده ولا تريدونه من انفجار اجتماعي وعدم استقرار أمني.
إن من المؤسف أن نجد كل هذا الذي يجري لا يدعوكم إلى الإسراع في تأليف حكومة قادرة على النهوض بهذا الوطن واستعادة ثقة الخارج به في هذه المرحلة الصعبة، أو العمل بكل جد ومسؤولية من أجل التوافق على رئيس للجمهورية قادر على إدارة دفة البلد والوصول بها إلى شاطئ الأمان لمنع الفراغ وتداعياته في ظل عدم تأليف حكومة بدلاً من الحديث الذي أصبح من المسلمات أن لا رئيس للجمهورية في الفترة القريبة وأن التعطيل في هذه المرحلة سيكون سيد الموقف.
إن من المؤسف أن هناك في هذا البلد من بات يستسهل الفراغ سواء في موقع رئاسة الجمهورية أو الحكومة من دون أن يأخذ في الاعتبار تداعياته، وإذا كان البعض يهون منه بالتذكير بأنه حصل سابقاً فإننا نقول لهؤلاء إن الفراغ عندما حصل سابقاً كان البلد لا يزال فيه بقية من رمق حياة وهذا لم يعد موجوداً الآن.
ونبقى على الصعيد الاقتصادي والمعيشي لننوه بالمبادرة التي استمعنا إليها من المسؤولين في الجمهورية الإسلامية في إيران خلال وجودنا في مؤتمر المجمع العالمي لأهل البيت(ع)، لتقديم المساعدات المجانية للبنانيين ولا سيما على صعيد الفيول لتأمين الكهرباء، ونأمل أن يساهم القرار الذي اتخذته الحكومة اللبنانية بإرسال وفد تقني في التعجيل في إيصال هذه المساعدات أو تدفع من أعلنوا رغبتهم في مساعدة لبنان إلى مد أيديهم للمساعدة أو إزالة العقبات عن المساعدات التي وعد بها اللبنانيون.
وفي الوقت نفسه، فإننا على هذا الصعيد ندعو وزارة الاقتصاد والبلديات إلى التشدد في الالتزام بتسعيرة المولدات وعدم ترك المواطنين تحت رحمة جشع هؤلاء الذين يستغلون حاجة الناس إليهم.
أما على صعيد الترسيم، ففي الوقت الذي ينتظر اللبنانيون ما سيحمله المفاوض الأمريكي، فإننا ندعو المفاوضين اللبنانيين إلى الحذر من الطريقة التي تدار بها هذه المفاوضات، حيث يستمر العدو الصهيوني بالمماطلة في إعطاء لبنان حقوقه السياسية، تارةً من خلال ربطها بالانتخابات داخل كيانه وطوراً من خلال طلب التعويضات المالية، أو بممارسة الضغط من خلال المناورات العسكرية التي يجريها على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، وبالتالي فإننا نعيد التأكيد على إبقاء الموقف اللبناني موحداً ورافضاً للتنازل عن حقوق اللبنانيين بثروتهم الوطنية وعدم الرضوخ لمناورات العدو وتهديداته، مستفيدين من قوة لبنان وحقه المشروع بحدوده البحرية ضمن القانون الدولي.
وأخيراً فإننا نحيي الشعب الفلسطيني الذي أثبت مرة جديدة ومن خلال العملية الجريئة التي جرت أخيراً في غور الأردن وغيرها من العمليات ضد قوات الاحتلال الصهيوني، بأنه عصيّ على الترويض والإخضاع وأنه يستطيع رد ضغوط العدو وعدوانه وممارساته الإرهابية بعمليات هي من صناعة فردية وليست خاضعة بالضرورة لتخطيط تنظيم أو فصيل بل تنطلق من أصالة هذا الشعب وجذوة المقاومة المتأصلة فيه والرافضة للخضوع والقادرة على إفهام العدو بأنها مستمرة لصون الحقوق وحفظ كرامة هذا الشعب ومقدساته.