السياسة العربية ما بين “التنظير” والنظرية: جعجعة بلا طحن وبلا طحين!..
..
رائد الاعمال المفكر العربي حسن اسميك…
عند المرور بأي حدث مفصلي، كبير ومؤثر، يعمد كثيرون -وأتحدث عنا على المستوى الفردي- إلى إعادة تقييم كل ما قاموا به من قبل، وما أوصلهم إلى حالهم الراهن، ما هو صائب وما هو خاطئ، ويبنون على ذلك الأساس تقديراتهم وأفكارهم، حول ما يريدونه في المستقبل، ما يمكن تغييره وما يجب إبقاؤه على ما هو عليه، على مختلف الصُّعُد. وبالطبع تظلُّ هذه الأفكار “الخطة” نظرية بحتة ما لم تُنقل إلى حيّز التنفيذ من خلال الفعل، وبناءً على الإرادة.
قد ننجح في تطبيق هذه الأفكار، وهذه خطوة أولى، وقد نحصد نتائج هذا النجاح، وهذا هو الأمر الأهم والأكثر تأثيراً. كما قد نفشل أحياناً، وذلك مرتبط بما اخترناه من بنودٍ لخطتنا، ومدى مناسبتها لشخصيتنا ولطباعنا ولقدراتنا، وللأدوات التي نمتلكها. وقد يكون الفشل أيضاً نتيجة أسباب خارجة عن إرادتنا، وعوامل خارجية لا نستطيع ضبطها والتحكم فيها.
هذه الفكرة البسيطة إذا ما سحبناها وأسقطناها على عالم الفكر والسياسة، فبإمكانها أن تعبّر ببساطة عن العلاقة المعقدة والمتشابكة بين النظرية السياسية والممارسة السياسية، وفي العالم العربي على وجه التحديد!
إذا سألنا السؤال المعتاد “هل السياسة علم أم فن؟” فالكلُّ سيقول “إنها الاثنان معاً”. أما في الجواب عن سؤال “أيهما أسبق على الآخر الفكر أم السياسة؟” (وسأعني بالفكر كل الفلسفات وكل ما هو نظري، وبالسياسة كل ما يتعلق بالعمل وممارسة الفعل السياسي)، فستكون الإجابات مختلفة، إذ يملك الغربيون جواباً واضحاً، ففي البدء عندهم كانت “البوليس”، وكان تخيُّل النظام السياسي أسبق على تشكُّله، وكان للفكر الأسبقية على السياسة، وله استقلاليته وحريته، فبدون التحليل العقلاني والتأمل لا يمكن تمييز المبادئ الحقيقية للعدالة والنظام، ولا التأسيس لـ “الجمهورية الفاضلة” التي هي الغاية الأبعد.
يُضاف إلى ذلك أن العلاقة بين الفكر والسياسة، عندهم، ديناميكية تبادلية، فيقول بعضهم إن الفكر هو المحرك الأساس للتغيير السياسي، لأنه يُشكِّل فهمَنا للمجتمع والعدالة والحكم. ويرى آخرون أن السياسة كثيراً ما تُملي معايير الفكر، حيث يمكن للأنظمة السياسية أن تعزز أو تقمع الحرية الفكرية والنقاش المفتوح. وبعبارة أخرى، يمكن للفكر أن يؤثر على السياسة من خلال قدرته على نقد هياكل السلطة القائمة واقتراح رؤى بديلة للتنظيم المجتمعي. وعلى العكس من ذلك، وفي الوقت نفسه، يمكن للسياسة تشكيل الفكر، عبر خلق بيئة تُشجّع أو تثبّط المشاركة النقدية في الشأن العام وقضاياه.
إذن، الحالة الطبيعية هي أن يكون الفكر والسياسة متشابكين، أي أن يكون لكتابات الفلاسفة السياسيين أثرٌ عميق على الحركات السياسية، وبالمقابل، يمكن للأحداث السياسية أن تُلهم خطوطاً جديدة من البحث النظري. لكن، هل هذا هو الحال عندنا -نحن العرب- في هذه الألفية الثالثة التي نعيش فيها؟
بومة منيرڤا عربية!
يصحُّ في وصف العلاقة بين الفكر والسياسة في عالمنا العربي قول هيغل المعروف: “إن بومة منيرڤا لا تمدُّ جناحيها للطيران إلا بعد أن يرخي الليل سدوله”. و”منيرڤا” هي إلهة العقل والحكمة وربة جميع المهارات والفنون والحرف عند قدماء الرومان، وبومتها الشهيرة هذه هي رمز الفلسفة، وكل ما هو نظري إذا جاز الإسقاط، أما “الليل” فيمثل في الحالة العربية الحدث السياسي، فالفكر السياسي العربي متأثر بالسياسة بما يفوق بأشواط تأثيره فيها.
في الغرب، قد ينتج الفكر عن أسباب تتعلق بالسياسة، فإذا كانت السياسة في مجتمعٍ ما قمعية أو تمييزية أو عنصرية، فإن هذا سيؤدي إلى ظهور فكر نقدي يرفض القمع والتمييز، وسنجد أن مفكرين معاصرين مثل ميشيل فوكو وجوديث بتلر ونانسي فريزر وإيريس ماريون يونغ وتشومسكي وآلان باديو.. قد قاموا بتوسيع حدود الفكر السياسي وتحدّي الافتراضات التقليدية حول السلطة والهوية والعدالة الاجتماعية. وقد أدّت أفكارهم -ولا تزال- إلى إثارة الجدل وإثراء الخطاب السياسي، ما يدلّ على الأهمية المستمرة للفلسفة في مواجهة تحديات العالم الحديث.
بالمقابل، نجد عندنا وفي مواجهة السياسات التسلطية مثلاً، إما انسحاباً للمفكرين من المجال السياسي بالكامل، أو ارتداداً إلى الأفكار الدينية والمذهبية المتطرفة، أو تماهياً تاماً مع السلطة وتحوّلاً إلى أداة في يدها، والأسوأ من هذه وتلك، أولئك الذين يُظهرون معاداة للسلطة من خلال خطاب شعبوي تحريضي مليء بالتضليل والأوهام، لاستمالة الناس وتحصيل مصالح شخصية، وفي الغالب نجدهم يغازلون السلطات من تحت الطاولة وخلف الستار.
“ثورة” بلا فكر؟
بالعودة إلى المقدمة عن الخطط المستقبلية، وإمكانية سحبها إلى عالم السياسة في العالم العربي، نجد أن الخطة التي يتم وضعها في البداية هي النظرية السياسة العربية، وهذه بالعموم كانت ضعيفة ولم تستطع أن تفرض نفسها على السياسيين، ولا على المشهد الفكري في العالم، ولهذا أسباب كثيرة تتعلق بواقع منطقتنا منذ أن كانت تحت الحكم العثماني، وما تلاه من انتداب واستعمار، وصعود للتيارات العروبية والإسلامية، جعل تفكيرنا بالسياسة، وتطبيقنا لها، مأزوماً أزمة بنيوية.
ورغم ضخامة الأحداث التي شهدتها منطقتنا منذ مطلع الألفية، وأعني بذلك ما يسمى بـ “الربيع العربي” وما أوجده من تحولات في الأنظمة السياسة، ومشكلات وحروب أهلية، وتدخلات إقليمية ودولية، لا زلنا نعيش تداعياتها، وأظنّها ستستمر أجَلاً غير قصير أيضاً، رغم كل ذلك، لا نجد اسم منظّر واحد أو مفكر واحد ارتبط بهذه الأحداث، مثلما ارتبط اسم جان جاك روسو وكتابه “العقد الاجتماعي” بالثورة الفرنسية، أو اسم جيمس ماديسون وكتابه “أوراق الفيدرالية” بالثورة الأمريكية، أو ماركس وكتابه “رأس المال” ولينين وكتابه “الدولة والثورة” بالثورة الروسية، وماو تسي تونغ وكتابه “حرب الغابات” بالثورة الصينية. أو حتى كما ارتبطت في أوقات قريبة نسبياً أسماء جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وميشيل فوكو بالثورة الطلابية في فرنسا 1968.
بل للأسف، كثيرٌ من المفكرين العرب الذين كانوا دعاة للعلمانية والعقل النقدي والتطوير والتجديد، شهدت أفكارهم وتنظيرهم نكوصاً وارتكاساً شديدين نحو ما هو إسلاموي (أي مرتبط بالإسلام السياسي)، وحلَّ العقل الجمعي محلّ العقل الفردي النقدي المتحرر، فصاروا أخطر على الفكر والفلسفة العربية من الجَهَلة ومن المتطرفين، وممن يمكن اعتبارهم أعداء لها.
لعنة المحلل السياسي
وبدل أن يظهر لدينا مفكرون ومنظّرون، ابتُلينا بالمحللين السياسيين. قد يجد بعضهم في كلمة “لعنة” شيئاً من المبالغة، ولن أختلف معهم، فهدفي إظهار المعنى، وتوضيح فداحة ما يجري على كلِّ المنصات الإعلامية العربية، إذ يخرج لنا عبرها يومياً العشرات ممن يُكتب تحت صورهم “المفكر والمحلل السياسي والاستراتيجي..”، وكأن الجمع بين هذه الأمور شيء عادي وبسيط.
يشبه معظم هؤلاء، كي لا أعمّم فأُخطئ، المشتغلين في الفلك والتنجيم، لا المشتغلين في السياسة، فيقولون ما يحلو لهم على أنه حقيقة، ويستخدمون الأرقام والإحصائيات غير الدقيقة، ويخدم معظمهم أجندات محددة لهذه السلطة أو تلك، ولهذا السياسي أو ذاك، وكل هذا لا يُنتِج إلا جمهوراً مُضلَّلاً، ووعياً سياسياً في انحدار، وعقلاً جمعياً “قطيعياً”، وأوهاماً منتشرة بين الناس على أنها حقائق وممكنات.. ما يفاقم مشكلاتنا ويبعدنا أكثر عن حلها.
إن كل وسيلة إعلامية لها محللوها المعتمدون، ولا تأتي بغيرهم إلا في حال أرادت إثارة الجدل، والشِّجار، دون أن يدركوا تأثير ذلك في المتلقّين، وازدياد الانقسام حول القضايا السياسية، الرئيسة والفرعية، في مجتمعاتنا المستقطبة أصلاً.
وبالطبع، ليس كل المحللين السياسيين على التلفزيون يمثلون ظاهرة سلبية. فهناك بعضهم ممن يقدّمون تحليلاً موضوعياً للأحداث الجارية، ويسهمون في إثراء النقاش السياسي، لكن هذا كله ليس فلسفة ولا نظريات سياسية، بل إن الفلسفة السياسية هي بالتحديد –وبتكييف بسيط لتعريف ليو شتراوس للفلسفة– استبدال الآراء السياسية بالمعرفة السياسية.
ولا أعني بهذا أن النظرية السياسية لا يمكن أن تتخذ إلا شكل أطروحة فلسفية، بل على العكس من ذلك تماماً، فكما تُطرح الفلسفات في الكتب وفي الأبحاث والمقالات، تظهر عند تناول حدثٍ ما كما فعل ثيوسيديدس في تأريخه للحرب البيلوبونيسية، وفي أدب الرحلات الذي اشتهر به ألكسيس دو توكفيل، وكتيّبات النصائح ومثالها الأشهر مكيافيللي وتوجيهات كتابه الأمير، وأحياناً في الدراما، فقبل شكسبير كان مكيافيللي نفسه وأفلاطون أيضاً من الكتّاب المسرحيين البارعين. وقد تأتي –النظرية السياسية– على شكل نمط جديد، يشبه ما سبق أو يختلف عنه تمام الاختلاف. فالنظرية السياسية وفقاً لديفيد هيلد David Held، “هي شبكة من المفاهيم والتعميمات حول السمات الرئيسة للحكومة والدولة والمجتمع”. وهي تتولد عندما يحاول المفكر مناقشة أمر شامل ومحايد حول طبيعة الحياة العامة، سواء من خلال الحجة الفلسفية، أو الحوار، أو الدراما، أو التاريخ، أو الخيال. وربما نشهد أدوات جديدة في عصرنا المتسارع المليء بالابتكار.
الفلسفة ضرورة لا تَرَف..
إن غياب الفلسفة والتنظير السياسي عن الواقع السياسي العربي ليس أمراً بسيطاً يمكن التغاضي عنه وتجاوزه، فالنظرية السياسية تهدف في المقام الأول إلى شرح “المجال السياسي” في مجتمع من المجتمعات، وبالتالي، فهي تعكس مكانة السياسة في الحياة الاجتماعية، ومن غير المنطقي أن يغيب التنظير السياسي عن مجتمعاتٍ كمجتمعاتنا العربية، تشكّل السياسة خبزها اليومي وشريان حياتها.
النظرية السياسية ليست ترفاً فكرياً، ولا تخيّلات وشطحات من الأفضل أن تظلّ حبيسة الكتب والمقالات، بل هي حاجة ماسّة بسبب صلتها المباشرة بحلّ مشكلات المجتمعات، لأنها هي من يضع للسياسي صورة الغاية النهائية وطريق الوصول إليها. والمفاهيم السياسية ليست مسألة إيمان أو معتقد، بل هي أمور قابلة للنمو والتطور من خلال التفكير والمزيد من التفكير. وحتى أشهر النظريات السياسة وأعقدها وأوسعها انتشاراً (الليبرالية والماركسية والواقعية والبنيوية..) لم تصلنا بالشكل الأول الذي وُلدت عليه، بل خضعت للتمحيص والبحث والتحقق والنقد، وكل هذا ولَّد المزيد من الأفكار، فالنظرية السياسية تشعل روح التفكير والنقد، وتدفع إلى تعلّم المحاججة وتقديم الأدلة والبرهنة. ونحن في مجتمعاتنا في أمسّ الحاجة لكل هذه، على مختلف المستويات، الفردية منها والجمعية.
لا أنفي بكل ما سبق من كلامي أن التنظير السياسي بمعناه الأشمل قد تراجع فعلاً، ليس لدينا نحن العرب وحدنا، بل في العالم كله. وفي الغالب، لن تظهر نظريات كبرى جديدة عالمية، تحاول التعامل مع الصورة الكبيرة للمجتمع، أو للعالم. لكننا في المقابل نعيش زمن النظريات الأكثر تحديداً، والأقل شمولاً، والتي تتعامل مع جزء من الصورة الكبيرة (الدولة، المواطنة، الحرية، المساواة، السيادة)، ويندرج معها مبدأ “التنظير المعياري” أي القول في ما يجب أن يكون، ومثاله الأبرز “نظرية العدالة” 1971 لجون راولز John Rawls. وبإمكاننا أن نكون منخرطين في هذه الموجة، والبدء بالعمل على أفكار عربية تناسب واقعنا الحالي، وتقوم على تراثنا من جهة، وتتلافى ما جرى الوقوع فيه من أخطاء سابقاً.
إن إصلاح أوضاع دولنا العربية بالعموم هو مهمة فكرية فلسفية مثلما هو مهمة سياسية، والفكر لا يجب أن يكون محلِّلاً للسياسة من جهة أو مشرعِناً لها، بل يجب أن يكون ناقداً وناقضاً ومؤسِّساً أيضاً. ولا يجب أن نخاف من التفكير في مجتمعنا أو نحدد له بشكل مسبق كيف يجب أن يكون، والدعوة إلى ذلك ليست طوباوية مثالية، بل هي براغماتية، وفي لبِّ المصلحة الوطنية.
إلى جانب ذلك، لا بدَّ أن يدرك صنّاع السياسة والمشتغلون بها أن قيام علاقة صحية بين التنظير والعمل السياسي سيؤدي دوراً مهماً وكبيراً في تحقيق أهداف النظام السياسي، وضمان استقراره. ولذلك، فإن تعزيز هذه العلاقة لا يهدد سلطتهم، بل يعطيها شرعية حقيقية ويزيد من شعبيتها وقبولها لدى الجمهور والرأي العام. لذا، لا بدّ من الاهتمام بمراكز الأبحاث ودعم البحث العلمي في مجال السياسة، ونشر الوعي السياسي بين الناس. كذلك، من الضروري مراجعة القوانين والأنظمة السياسية، وتعديلها بما يهيئ البيئة المناسبة للتفكير والتنظير، ويتوافق لاحقاً مع النظرية السياسية. بالإضافة إلى مقاومة تدخّل العوامل والقوى الخارجية، من خلال بناء علاقات دولية متوازنة، تقطع الطريق على أي طرف يحاول حرمان الدول العربية من استقلاليتها السياسية.. والفكرية أيضاً.
ختاماً
لقد آن للمثقفين العرب الخروج من كافة الأكبال التي تقيّدهم (الاستبداد والتسلط؛ تنامي ظاهرة الإسلام السياسي؛ تأثرهم الكبير جداً بأفكار الغرب، ومحاولة نقلها كما هي وتطبيقها عربياً؛ العولمة وتراجع الوجود العربي في مواجهتها؛ بالإضافة إلى تحوّل كثيرين منهم إلى “وعّاظ السلاطين” المستعدين دائماً لتطويع الفكر والفلسفة وتحويرها واستخدامها بما يخدم مصلحة السلطة ويبرر سياساتها ويمنحها الشرعية..). أما إذا بقي مثقفونا في انتظار زمن تكون فيه الحقوق مكفولة، والحريات مُصانة، قبل أن يباشروا العمل، فلينضموا إلى فلاديمير وإستراغون في انتظارهما لـ غودو!
سابقاً.. تصوّر أفلاطون فكرة الفلسفة السياسية على أنها محاولة الهروب من الكهف، ولا أظنها اليوم تختلف كثيراً لدينا نحن العرب، وهذا ما يجب أن يكون مشروعنا جميعاً، أما حين يقول قائلٌ إن في هذا الكلام طوباوية عالية، وكثيراً من “ما يجب أن يكون”، في حين أن السياسة “فن الممكن”، فهنا لا بدّ من الردّ بالقول إن على الفكر السياسي أن يبحث عن أفضل الممكنات، ويضع الخطوات، ويشقّ السبل للوصول إليها، وبذلك تصبح كل خطوة نحو الأفضل أمراً جيداً مهما كانت صغيرة، فلا نقول إن السياسة هي فن الممكن ونقف مكتوفي الأيدي، بل نؤمن بأنه حين يوجد الفكر والإرادة والأدوات المناسبة، يصير كل شيء في السياسة ممكناً..
عن موقع عين الاردن